الأربعاء، 17 ديسمبر 2014

ملح الأرض لفيم فندرس .. الفوتوغرافيا بلغة السينما

بعد النجاح الكبير الذي ناله فيلمه الأخير عن الراقصة والمصممة الأسطورة "بينا باوش"، يقرر فيم فندرس أن يعلن للعالم بفيلم جديد إمتنانة لفنان من طراز أخر، أثر فيه بقدر لا يقل عن تأثير بينا باوش. "ملح الإض" فيلم وثائقي غير تقليدي عن حياة وفن مصور فوتوغرافي عالمي هو البرازيلي سباستيو سالجادو Sebastião Salgado
جاء لقاء فندرس الأول بسالجادو منذ قرابة عشرين عاماً، لقاء فني صرف يشاهد خلاله المخرج الألماني في سنواته الذهبية )باريس،تكساس1984، السماء فوق برلين(1987 أعمالاً لسالجدوا في إحدى المعارض فيجذبه عالمه منذ ذلك الحين ويتيمه سحر صورة بالذات، إمرأة الطوارق العمياء، أحد أعمال سالجالدو المبكرة.

أن تكتب وتنفذ فيلماً عن مصور فوتغرافي هي مهمة ليست بالبسيطة على كل حال، وتجربة تختلف عن تلك التي سبقتها مع بينا باوش، فبغض النظر عن شهرتها التي تفوق شهرة سالجادو، فإن عروضها وتصميماتها تحوي مادة فنية غنية بالحركة والتشكيل والإيقاع، أي كل الأدوات التي يمكنك من خلالها صناعة فيلم جيد.
 سالجادو مصور، مادته على روعتها وعمقها ساكنة، ورغم مافيها أحياناً من فكر وتشكيل سينمائي يذكر بالمخرج بالمجري بلا تار Bella Tar فإن الحركة والنطق يعوزنها بالضرورة. مهمة فيندرس لن تكون مهمة اختيار الصور والقصص التي تلائمها في تجارب بطلة وحياته فحسب، بل ستكون في الأساس مهمة إنطاق تلك الصور بلغة ومنطق يلائما السينما كأداة فنية مختلفة ويخاطبا جمهورها. خاصة إذا كان ذلك جمهور لمخرج في حجم ومكانة فيم فندرس، ما يتوقعه منه هو شيء بعيد كل البعد عن الريبورتاجات الوثائقية عن مشاهير الفنانين والكتاب والساسة التي تتهاتف عليها تلفزيونات العالم. 


يجتاز فيم فندرس صعوبات المهمة، خبرة السنوات الطويلة في المجاليين الروائي والتسجيلي تعفيه من الوقوع في أخطاء غير محسوبة، يبدأ الفيلم بداية قوية تقدم لنا النموذج السردي الرئيسي للمائة دقيقة القادمة، سالجادو يجلس في غرفة مظلمة، يتوسط الكادر، يشاهد صوره واحدة بعد الأخرى ويروي بنفسه ظروف وملابسات إلتقاطها. تراقب الكاميرا تفاصيل الصور، تارة قريبة تارة بعيدة، تارة ساكنة وتارة في حركة ناعمة، محاولات دؤوبه بالأبيض والأسود لاستكشاف هذا العالم الفريد برؤى عديدة وزوايا مختلفة لعل جديداً يكشف عنه أو يخرج للنور مجهول. 
خطان سرديان أخران يتعاقبان وهذا النموذج الرئيسي، فتنتقل المادة الوثائقية بين مستويات مختلفة تجنبها رتابة الإيقاع وإن كان كم الصور التي عرضها فندرس قد طغي على الكيف وآفقد الفيلم بذلك بعض تماسكه. في  الخط الأول نصاحب سالجادو أثناء رحلات بحثة مع عدسته عن عوالم جديدة تستلهمه،  في سيبريا كانت أو بابوا، مواد أرشيفيه أو مشاهد هي أروع ما في الفيلم، كان فيها فيندرس لسالجادو رفيقا في السفر، فنشاهده في لحظاته الحميمة بينه وبين عدسته، يجوبان سوياً السهول والجبال، يتشاركان وكلاب البحر لحظات الخوف والمرح أو يراقبان دب قطبي ساعات لأجل إلتقاط ولو صورة واحدة، إلى أن يغلب النعاس سالجادو والدب أيضا.
 حتى فيندرس وكاميرته ومدير تصويره لم يسلموا من شغف سالجادو الدائم، تلتقطهم عدستة في لحظة خاطفة أثناء تصويرهم، فكأنما سقطنا نحن جمهور الفيلم في تلك اللحظة أيضا فرائس لمجال عدسة سالجادو، كأنما صار الفيلم كله بمخرجه وجمهوره صورة من صورة.. 


في الخط الثاني  نشاهد سالجادو في وطنه، في مزرعة أبيه التي جعلاها هو وزوجته جنة من جديد بعد أن كانا التصحر والجفاف قد أتى عليها لتصير عجافا لعقود متوالية، هناك أيضا يصل الفيلم لمحطته الأخيرة وينتهي بطاقة أمل يبدو فيها المستقبل مليئاً بالبشائر والوعود، واثقاً في الإنسان المبدع بعد أن كان سالجادو قد أعلن كفره بالإنسان والبشرية من قدر انعدام العدالة وهول ما رأه من مأسي الحروب وقذارة السياسة، حتى كاد أن يغلق عدسته في وجه الإنسان ويقصرها على الطبيعة وصور أخرى للحياة فيها قد تكون أرقى وأشرف.

حياة سالجادو الغنية بقربها من البشر بكل ألاوانهم وفي كل مناقبهم، وفنه الملتزم فكرياً واجتماعياً، هما ما يجعلا من سالجداو نفسه مفارقة لنفسه نموذج مشرف للإنسان الذي كاد هو أن يكفر به. 


Comments
0 Comments

0 التعليقات:

إرسال تعليق