الجمعة، 21 أغسطس 2009

الجحيم يعيد " رومي شنايدر " إلي الحياة !!

" في الحياة لا أقدر علي شىء و علي الشاشة كل شيء !"



من الأفلام المميزة التي عرضت في مهرجان كان هذا العام ( ٢٠٠٩) ثم فى مهرجان "ميونخ "بألمانيا فيلم أعيد إكتشافه حديثا بعد خمسة و أربعين عاما ظل فيها حبيس الأدراج . إنه فيلم L'Enfer أو الجحيم للمخرج الفرنسي الكبير "هنري كلوزه " Henri Georges Clouzot (١٩٠٧-١٩٧٧) و الذي كان قد بدأ في تصويره عام ١٩٦٤ و بميزانية مفتوحة ثم لم يستطع أن ينهية لأسباب مازالت تبدو حتي اليوم غامضة .

فالبرغم من أن السبب الظاهري هو إنسحاب بطل الفيلم " سيرجي راجياني " Serge Reggiani قبل إنتهاء التصوير إلا أن فريق العمل كان لديه إحساس عام بأن الفيلم لن يكتمل علي أي حال ، فقد إنخفض إيقاع "هنري كلوزه " بشدة في أيام التصوير الأخيرة و أخذ يبالغ في تفصيلات اللقطات بطريقة لم يعهدها منه كل من عرفوه ، فقد عرف عنه أنه لم يكن ليذهب موقع التصوير إلا و في يده "ديكوباج " محكم و مفصل حتي أصغر التفصيلات ، إلا أنه فجأه و أثناء تصوير هذا الفيلم صار كالتائها لا يعرف ما الذي يفعله و أخذ يفرط في التجارب قبل كل لقطة و يعيد اللقطات عشرات المرات و يبدل و يغير حتي أرهق فريق عمله و أحبط عزمه ...

ما عرض في مهرجان كان لهذا العام ٢٠٠٩ هو إعداد فيلمي قام به المخرج الفرنسي " سيرجي برومبيرج " في أولى تجاربة السينمائية الوثائقية حيث استطاع الحصول علي الأجزاء المصورة من الفيلم ، التي لم يكن قد شاهدها أحد منذ توقف التصوير عام ١٩٦٤ بعد مفاوضات صعبة مع زوجة " كلوزوه" .. المواد المصورة لم يسجل لها شريط صوت فاستعوض " برومبيرج " عن ذلك بموسيقي بديعة ألفت خصيصا لهذا الغرض ، ثم أدمج "برومبيرج " المواد المصورة مع حوارات وثائقية قام هو بتصويرها مع أفراد من فريق العمل و بعض من الذين أحاطوا بكلوزوه في تلك الفترة علي رأسهم صديقه المخرج اليوناني العظيم " كوستا جارفاس " . كما قام أيضا بتصوير مسرحي رمزي لبعض من أجزاء السيناريو التي لم تصور و التي رأها "برومبيرج " مهمة لكي نفهم سيناريو كلوزوه .

" الجحيم " لكلوزوه كان فيما يبدو ثورة من نوع خاص علي السائد من السينما ، ثورة تختلف عن تلك التي تولي كبرها معاصريه في فرنسا "تروفوه "و "جودار" الذين لم يعجبهم "كلوزوه " و رأووا فيه ممثل للتيار الخمسيني الفرنسي الذي حان الوقت لتغييره .

كلوزره أيضا كان مؤمنا بالتغيير و لكن ليس علي طريقة الموجة الجديدة ، فقد حافظ في فيلمه " الجحيم " علي السرد الروائي التقليدي ثم أضاف عناصر تعبيرية مستغلا و مطورا تقنيات السينما الألمانية الصامته في عشرينيات القرن الماضي ، فقام بتجربة عدد كبير من خدع و أشكال بصرية و تراكيب لونية غير تقليدية كما وضع خطة لشريط الصوت ، حاول " برومبيرج " إعادة بنائه من خلال أوراق "كلوزوه " احتوت علي قدر كبير من التجريب و اللعب بالتردادات الصوتية عن طريق تسريعها أو تركيب عددا من الأصوات بعضها فوق بعض ، كل ذلك ليضيف " كلوزوه " لخطه الدرامي بعدا فانتازي يدعم الدراما و لكنه لا يلغيها .

مفاجأة الفيلم هي الساحرة " رومي شنايدر " Romy Schneider أو " رومي شنيديغ " كما ينطقها الفرنسيون و التي كانت في ذلك الوقت قد تجاوزت طور المراهقة الصغيرة "سيسي" ، و صارت نجمة شباك محبوبة يملأ صيتها الأذان و يخطف الأبصار وهج أنوثتها البراق ، فتخفق لها قلوب الملايين .

و كان قلب النجم الفرنسي الوسيم " آلان ديلون " علي رأسهم حيث شغف بها حبا ، و هي كذلك .كانت " رومي شنايدر" الاختيار الأمثل لتلعب دور " أوديت " في جحيم كلوزوه ، ففتنة " أوديت " يسيل لها لعاب الرجال و تسلب عقولهم ، و قد سلبت عقل زوجها ، فأضحي يغير عليها بجنون و يتوهم خيانتها له مع كل من حولها رجالا كانوا و نساءا بينما هي في الحقيقة وفية ، مخلصة له ، بريئة من كل هواجسه .

و لم أعرف وجه إجتمعتا له ما لحواء من فتنة و إثارة و مالها من براءة تنساب عذبة نقية مع كل إبتسامه ، كما إجتمعتا في وجه " شادية " و " رومي شنايدر " !

و إذا كانت " رومي شنايدر " نمساوية المولد ، ألمانية الأبويين و الإنطلاقة الفنية ، فإنها فرنسية الوجه و القوام و المجد الفني بعد ذلك ، فقد لعبت في فرنسا أروع و أغلب أدوراها و ظلت طوال سنوات الستينيات و السبعينيات إحدي نجمات الصف الأول في فرنسا مع " بريجيت باردو " و " أنا كارينا " و اختارها عدد من المخرجين الكبار بطلة لأفلامهم أمثال الأمريكي " أورسون ويلز " و الإيطالي " لوكينو فيسكونتي " و في عام ١٩٧٨ رشحها المخرج الألماني الكبير " فاسبيندر " لبطولة فيلمه الشهير " زواج ماريا براون " Die Ehe der Maria Brauen و رغم حماسها في البداية للفكرة فقد تعزر المشروع بعد ذلك حيث لم تطق معاملة "فاسبيندر "لها التي وصفتها بالفظاظة .


ولدت "رومي شنايدر " في عام ١٩٣٨ و كانت إنطلاقتها الفنية الأولي حين لعبت دورة "سيسي" Sisi إمبراطورة النمسا في فيلم ألماني حمل نفس الاسم و ظهر عام ١٩٥٥ ليحقق نجاحا غير مسبوق حيث لاقت قصته البسيطة شديدة الرومانسية و السطحية أيضا إستحسان الذوق الألماني الناشىء في أعقاب معجزة الخمسينيات الإقتصادية , حيث أقبل الألمان علي القصص السينمائية الخفيفة بنهايتها السعيدة و مناظرها الرومانتيكية الخلابة فرارا من ذكريات الحرب و مآسيها .

صارت " سيسي " إيقونة لفترة الخمسينيات في ألمانيا ،بل صارت صفة تطلق علي الجميلات من الفتيات اللاتي لهن نعومة الحرير و رقة البسكويت .. و ارتبطت الشخصية برومي شنايدر ، فأنتجت خلال السنوات الخمس اللاحقة لنجاح الفيلم الكبير ثلاثة أفلام أخري تتناول حياة "سيسي " من بطولتها .

و الحق أن " سيسي " أوقعتها في مأزق كبير ، فقد إعتاد الناس رؤيتها في صورة الأميرة الرومانسية التي تشبه فتيات الأساطير بالمروحة و الفستان المنفوش ، فإذ بالمخرجين يعرضون عليها أدورا مشابهه ، تارة "كونتيسة " و تاره إبنه ملك ، فقررت رفض كل دور له صلة من قريب أو بعيد بسيسي ! و ندمت على تكرار لعبها رغم النجاح الكبير.

و مع ذلك عندما قرر المخرج الإيطالي العظيم " لوكينو فيسكونتي " (1906-1976) أن يكتب فيلما عن حياة ملك بافاريا " لودفيج الثاني " ، اختار " رومي شنايدر " لتلعب دورها الشهير ، سيسي مرة أخري ، و لكن في مرحلة منتصف العمر . فقبلت "رومي " دون تردد قدرها الإمبراطوري ليظهر الفيلم عام ١٩٧٢ ، و هو فيلم ملحمي مدته ٤ ساعات و سبعة دقائق !

و في عام ١٩٥٨ و لأن لغتها الفرنسية ممتازة ، إختيرت "رومي "لتلعب دور البطولة أمام " ألان ديلون " في فيلم فرنسي يحمل عنوان " كريستينا " و في أثناء التصوير اشتعل بينهما الغرام ، لتبدأ قصة حب شهيرة كانت حديث النميمة في فرنسا :النجم الوسيم الذي تطارده المعجبات ليلا و نهارا وقع أخيرا في شباك الهوي .. و الصائدة ؟ .. مراهقة ألمانية جمالها أسطورة !

تمت خطبة العاشقان و قررت بعدها" رومي شنايدر " أن تقيم بشكل دائم في فرنسا بالقرب من من اختاره قلبها و انهالت عليها العروض الفنية و صداقات كبار النجوم و الفنانين و الساسة هناك ، لتصير فرنسا بلد حقيقي لها حتي بعد إنفصالها عن آلان ديلون و الذي ارتبط بها ٤ سنوات ثم تركها لأجل أخرى و ندم علي ذلك طول عمره ! و علي كل حال فقد ظل صديقا مقرب لها حتى وفاتها .

ثم تزوجت بعد ذلك من الممثل و المخرج المسرحي الألماني اليهودي " هاري ماين " ، و قصته عجيبة و كئيبة ، فقد أحرق هتلر أبيه و أمه و كل عائلته في معسكرات الإعتقال النازية و نجي هو بإعجوبة ثم درس المسرح و عمل بالإخراج . أحضرته رومي معها إلي باريس ، و كانت حياتهما نموذج لقصة " زوج الست " الشهيرة ، فهي نجمة مليء السمع و الأبصار و هو فنان مغمور يعرفونه الناس فقط بصفته زوجها ، ـ خليفة آلان ديلون ! .

كان حب "رومي" له لا خلاف عليه ، و قد دعمته كثيرا، فكانت تتوسط له ليعمل في أفلامها كمصمم مناظر أو مساعد مخرج أو ليقوم بتمثيل بعض الأدوار الصغيرة ، و قد جعلته مدير أعمالها، ثم توسطت له لكي يقوم بإخراج مسرحية للكاتب النمساوي الكبير "توماس برنهارد " في مهرجان سالزبورج ، ففشلت فشلا مدويا . ثم توسطت له مرة أخري ليخرج اثنين من أوبرات فاجنر و أوبرا أخري لروسيني بنفس المهرجان ، فلم يكن حظه مع الأوبرا بأفضل حال وانتهى الحال بهما إلى الإنفصال عام ١٩٧٥ ثم إنتحاره المفاجيء عام ١٩٧٩ وحيدا يأسا و مدمنا ...

و في فبراير ١٩٨١ بدأت " رومي شنايدر " في تصوير المشاهد الأولي من فيلمها الثالث و الستين la Passante de Sans-Soucie أمام النجم الفرنسي " ميشيل بيكولي " و لكن تأجل التصوير فجأه بعد أن سقطت رومي شنايدر أثناء العمل فانكسرت ساقها ، ثم تأجل مرة أخرى حين كان عليها أن تجري عملية عاجلة في كليتها و لم يكد الفريق يعاود العمل حتى توقف كل شيء مرة ثالثة ، حيث عاجلت " رومي " الفاجعة الكبرى التى كانت سببا في القضاء عليها ، سقط إبنها البالغ من العر ١٤ عاما من إحدى الشرفات و هو يلعب ,ففارق الحياة لتفارق "رومي " أيضا إبتسامتها الناعمة التي طالما أشرقت سحرا إلى الأبد ، عاشت "رومى " أيامها الأخيرة بعد وفاة ابنها في بؤس شديد ، كأنها لم تعشها ، بل كان الموت هو من تأخر علي موعده معها ، فتركها هكذا لا تعيش أو تموت ، انطوت و انعزلت و أكملت الفيلم بأعجوبة ، و لأول مرة يجتريء علي جمالها الزمان فيكسي ملامحها بخطوط الألم ، تنكب "رومي" علي الخمر ، تبعتد عن الأضواء و عن استقبال الإصدقاء حتى يعثر عليها ميتة في منزلها فى صباح يوم التاسع و العشرين من مايو عام ١٩٨٢، لتنتهي أسطورة في زمن كان قد ودع أساطيره و تبقي ذكراها فى القلوب حية ، إله للجمال و الحلم المستحيل لكل الرجال !