الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

عن أنوثة ما بعد الستين: أيام فاني أردنت الجميلة!



جميلات السينما في فرنسا كالعطور هناك، لكل منهن عبق خاص ورونق أخاذ وبصمة لا تستبدل، ومن بينهن جميلات تذددن فتنة وجلالاً مع مرور الزمان، على رأس هؤلاء كاترين دونوف Catherine Deneuve التي خطفت الأنظار بجمالها الغامض في الستينيات، فصارت نجمة أولى في أفلام مخرجين كبار كبولانسكي ولويس بونيل ثم إيقونة للسينما الفرنسية بداية من التسعينيات بعد نيلها الأوسكار عن الفيلم الملحمي Indochine

والسنوات الأخيرة لم تزد دونوف غير تألقاً وسحراً في أدوار أعادت اكتشافها لتولد فنياً من جديد وتدخل مرحلة هي في رأي أغنى مراحلها، فدونوف لم تكن يوماً بذلك النضوج الأدائي، بتلك التلقائية أمام الكاميرا التي هي عليها الأن ومنذ سنوات قليلة، بتلك المقدرة على التعبير وذلك العمق في استيعاب الشخصيات والأساليب الإخراجية المتعددة، ثم أن تجاعيد الزمان  لم تمس جمالها بسوء إن لم تذده غموضاً وسحراً وهي على مشارف عقدها الثامن

ومن هؤلاء الفاتنات أيضا فاني أردنت Fanny Ardant معشوقة المخرج الفرنسي العظيم فرنسوا تروفو في ايامه الأخيرة وام ابنته الوحيدة، وبطلة عدداً من أفلامه الأخيرة التي قدمها فيها وجها جديداً ونموذجاً لجمال فرنسي غير معهود، فتح لها أبواب النجاح مع العديد من المخرجين الأخرين داخل فرنسا وخارجها، تخطت فاني أردنت اليوم الستين ومازال جمالها رأسمالها، لم تنضب منابعه، بل لم تنكشف كل أسرارة بعد.
في أحدث أفلامها les beaux jours أو الأيام الجميلة تلعب فاني أردنت دور أم وجدة يتهددها المصير التقليدي لحياة مابعد الستين، حياة فارغة بلا إثارة، بلا إحلام ولا طعم للتحدي، فتقرر أن تولد من جديد، أن تسخر من الزمان وتعبث بمداراته في نفس اللحظة التي يدعوها هو فيها لتسكن الهامش، تنعم بهدوء مشرف وتنتظر النهاية بضمير راض.


تلعب فاني أردنت "كارولين" إمرأة ترفض الحياة على الهامش ولكن يعوزها الثقة لتقبل التحدي، إلى أن يقابلها الحب أو تقابله، ليس الحب العادي الذي يجعل الحياة في مرحلتها العمرية ممكنة، حين يقرر اثنان أن ينتظرا النهاية سوياً بدلاً من أن تقتلهما الوحدة، أن يواسيا الساعات بحديث عن ذكريات ولت وأيام كانت بدلاً من أن تتردد أصدائهما في الفراغ، فهذا الحب تعيشه بالفعل مع زوجها ورفيق عمرها وهو حب لا يخرجها من محنتها ولا يهديها للمعنى الذي تبحث عنه، لا تبديل فيه ولا تغيير ولا غاية من وراءه إلا استلهام الماضي واحتمال الغد.

الحب الذي تقابلة بطلتنا حب أخر يتدفق نوراً وناراً وجنوناً مراهقاً ينعش ذكريات الصبا ويجدد خلق الوجود ويطليه بألوان البهجة، تقع بطلتنا في حب شاب يصغرها ربما ب٣٠ عاماً، وهي رغم تحفظها وادراكها أنها بتورطها في علاقة كهذه إنما تتلاعب بالمنطق وبالزمان إلا أن حلاوة الشباب التي مست قلبها وأرعشت جسدها لا تترك مكانا لعقل يحسب ويفكر.. إلى أين يذهب بها هذا الحب ؟ ماذا عن زوجها ؟ ما الذي ستقوله بناتها ؟ ورغم أنها لا تريد الإنخداع بمعسول كلام عاشقها الشاب Laurent Lafitte ولا بعسل عيناه الداكنتان اللاتي يشتعلان لهفة ورغبة فيها، إلا أن أنوثتها الموشكة على الذبول تستسلم للرغبة، تقبل المغامرة وتنصاع لهوى اللحظة الذي يحلو معه مذاق كل شىء، حتى الزيف. 
يستغرقهما الجنس المفرط، جسدها الذي لا يشبع يؤكد لها كل يوم أن جمالها لم ينطفىء وأن قلبها لم يعرف الشيخ بعد، وحين توشك بطلتنا على النصر، حين تصدق أن صباها قد عاد وأن أنوثتها تتفتح ورودا وقلبها ينبض شباباً،يفصح الزمان عن وجهه الحقيقي في مشهد الفيلم الأخير، عن قوانينه القاسية التي لا تتبدل.


 لا يخونها عشيقها ولا يخدعها، لحظة تكشف وجودي هي التي توقظ كارولين من سكرة نزوتها وهم في طريقهما لقضاء أجازة العمر، مجرد حديث عابر بينها وبين عجوز مسافرة، وحديث أخر تسمعه بين صديقها وبين حسناء في مثل عمره، يزول طعم العسل، تذوب نشوة الحلم الذي انقلب صدفة لواقع مضحك، لا باق غير أثار الزمان ومرارة الحقيقة.

شخصية كهذه تكاد تكون قد حيكت خصيصاً لتلعبها فاني أردنت، بل لا أستبعد أن مخرجة الفيلم Marion Vernoux  كانت تتخيل فاني أردنت أثناء كتابتها للشخصية، فهي اليوم من الممثلات القليلات القادرات على لعب أدوار الإثارة ومشاهد الجنس رغم تقدم العمر بهن، فابتسامتها بقت على روعتها وجسدها رغم تجاعيده احتفظ بعبقه المثير، كعطر يزداد سحرا كلما مر عليه الزمان. 

تشبه أردنت "كارلوين"  في الإيمان بالنزوات، في أن لكل لحظة قيمتها ومتعتها وأنه لذلك لا مراء علينا أن نعيش العمر لحظة بلحظة دون أن نوجع الرأس بثقل الماضي والخوف من المستقبل .. عن فيلمها الأخير تقول فاني أردنت " أنه أنشودة للحاضر، ما الذي يجعل الحاضر كله لحظة ؟ ليس الكلام الكبير بل الأشياء العادية وحدها، حمام ساخن ،كأس نبيذ فاخر أو الذهاب للفراش   .. الحب وحده هو ما يهم!"