الاثنين، 27 أبريل 2015

الطبلة الصفيح في السينما ... في رثاء جونتر جراس


فقدت ألمانيا مؤخراً واحداً من أعظم مثقفيها ومن أهم من أثروا حياتها الثقافية والسياسية في فترة مابعد الحرب الكبرى. أديب نوبل الكبير جونتر جراس 1926-2015 ،صاحب إحدى أهم الملاحم الأدبية في القرن العشرين، رواية الطبلة الصفيح التي صدرت عام 1959 لتنال حينها نجاحا غير مسبوق ويستقبلها النقاد بحماس منقطع النظير بقيت أصداءه محسوسة إلى يومنا هذا.

عني صدور هذه الرواية الضخمة ولادة جديدة للأدب الألماني المعاصر، مصالحة ثقافية مع هوية ألمانيا بعد الهزيمة ومع العار، مصالحة عمادها مواجهة الذات بنفسها وبالتاريخ، تعريتها ثم جلدها.


كان على جراس أن يقسو على اللغة كي تكون ممكنة، كي تجروء من جديد على الصياغة، كان عليه أن يجوب بها مغامراً مناطق درامية ونفسانية مظلمة، أن يكون عنيفاً بل مقززاً، كي يصبح لأدب مابعد الكارثة  في ألمانيا معنى، كي يصبح الأدب قادراً على التعبير، على استشراف المستقبل باستهجان الماضي، على مخاطبة الإنسان لا في ألمانيا وحدها بل في العالم كله.

بعد عشرين عاماً من صدورها تشاء الأقدار أن تعود الطبلة الصفيح لتشغل الإهتمام الإعلامي والثقافي في ألمانيا وخارجها وذلك بعد أن حولها فولكر شلوندورف أحد رواد الجيل الذهبي للسينما الألمانية الجديدة، إلي فيلم سينمائي عظيم فاق الرواية شهرة وانتشاراً.
كان فيلم الطبلة الصفيح أول فيلم ألماني ينال جائزة الأوسكار والفيلم الألماني الوحيد الذي يجمع بين الأوسكار وسعفة كان الذهبية محققاً بذلك إنجازاً تاريخياً لم يحدث غير مرات قليلة.

كان شلوندورف قد اشتهر بتحويله لعدد من الأعمال الأدبية المهمة إلي أفلام سينمائية، تورلس Der junge Törless لروبرت موسيل عام 1966، كولهاس Michael Kohlhass- Der Rebell لهاينريش فون كلايست، 1967 بعل Baal لبرشت 1970 ثم شرف كاترينا بلوم الضائع لهاينريش بول  (وهي بالمناسبة الرواية التي أخذ عنها هنري بركات فكرة واحد من أسوأ أفلامه على الإطلاق، تحقيق مع مواطنة، الذي قامت ببطولته نبيله عبيد). وحين عُرضت عليه فكرة تحويل الطبلة الصفيح إلى فيلم سينمائي تراجع في البداية رافضاً اعتقادا منه في استحالة ذلك ليس فقط لضخامة الرواية وطول الحقبة الزمنية التي تتناولها ولكن أيضاً لصعوبتها لغوياً ودرامياً على السواء، فأي فيلم هذا الذي يكون بطله الرئيسي قزماً قد اختار بنفسه أن يكون كذلك ثورة منه على عالم البالغين بوضاعته وخسته ؟

"أظل على رفضي في قبول الفيلم إلى أن يحدث وأن يرتسم مشهد من مشاهد الرواية بقوة في خيالي، أوسكار وماريا بملابس بحر على موضة الثلاثينيات، الشاطيء وكبائنه الخشبية ذات العيون السحرية، أجد نفسي منجذباً لفكرة الفيلم فقط من خلال هذه الصور ودون أن يكون لدي أدني تصور عن الذي يمكنني فعله بعد ذلك. كنت أشعر فقط انني سأحتاج لسنوات عديدة لإنجاز هذا العمل"
مشهد من الطبلة الصفيح


هذا ما يروية فولكر شلوندورف في يومياته (١)التي كتبها عن فترة عملة بالفيلم أخذاً في ذلك بنصيحة جونتر جراس نفسه الذي اقترح عليه أن يدون كل ما يخطر في باله أثناء العمل في الفيلم بقدر المستطاع، لا يهم أن يكون ما يكتبه منمقاً أو واصفاً لأحداث غير عادية، عليه أن يكتب ما يشعر به فحسب بلا مبالغة أو تصنع ..

"‬ قرأت الرواية لمرات عديدة، إمتلاء الكتاب بعلاماتي الخاصة هنا وهناك، صفحات عديدة أثنيتها بنفسي، يبدو أنني في حاجة إلى نسخ عديدة منه، بائعي الكتب يقولون أنهم لم يعودوا يبيعون هذه الرواية، لا أحد يقرأها اليوم، لن يقعدني قولهم عن العمل في الفيلم بل بالعكس، سيكون من الأفضل أن تكون مهمتي إعادة اكتشاف الراواية"‬

بالطبع لم يكن بالإمكان أن يتناول الفيلم كل ما جاء في الرواية. اختار شلوندورف أن يتوقف عند نهاية الحرب العالمية الثانية ويترك كل ما جاء في الكتاب عن حياة أوسكار بعد ذلك. كان يفكر في تناول ذلك في جزء ثانٍ لم يرى النور أبداً وأظن أنه لم يعد من الممكن الإقدام على عمل كهذا لا اليوم ولا في المستقبل القريب.

لم تكن مهمة اقناع جونتر جراس بالسيناريو بالأمر البسيط، اختلفت وجهات النظر واحتدمت النقاشات بينه وبين شلوندورف‪..‬
"زيارتي الأخيرة لجراس أصابتني بالقلق. بالطبع أريده أن يعجب بالفيلم في النهاية ولكنني لا استطيع أن أراه بعينه وبضميره.. أريد أن أجد علاقتي الشخصية بأوسكار، أن أبحث عنه في نفسي، في طفولتي، لا استطيع أن أحكي في أفلامي عن شخصيات لا أجد نفسي فيها"‬
وفي موضع أخر يروي شلوندورف كيف زار جراس موقع التصوير وأخذ يسهب في توجيهاته للممثلين باسلوب لم يرض شلوندورف بتاتاً مما اضطره في النهاية لأعادة التصوير.



لم تكن مهمة شلوندورف سهلة. واجهة الفيلم مشاكل انتاجية عديدة كادت أن تقضي عليه حتى قبل أن يولد، يحكي عنها شلوندورف في يومياته واصفاً كيف سافر متنقلاً بين ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة للحصول على التمويل اللازم لإنجاز عمل ملحمي كهذا.
Tell me the story in three lines هذا ما كان يقوله الأمريكان له حين حاول الحصول على دعمهم الإنتاجي.
استمرت المشاكل أيضاً أثناء التصوير الذي استمر شهوراً عديدة متنقلاً بين ألمانيا، فرنسا وبولنده ويوغسلافيا السابقة بفريق يضم أفراداً من كل هذه الجنسيات بالإضافة لأمريكين وإيطاليين.

"متاهة لغات، بلبلة لا حدود لها، لا أحد يعرف أحدا ولا ما الذي عليه تحديداً أن يفعله، حتى انني اقترحت ان يضع كل فرد بطاقة باسمه فوق ملابسه وكأننا في مؤتمر أمريكي"‬

بالفعل أعاد الفيلم اكتشاف الرواية التي جذبت، على صعوبتها، في أعقاب نجاحة جيلاً جديداً من القراء والمعجبين وساهم بلا شك في تشكيل ملامح اسطورة جراس الأدبية.

بقت الطبلة الصفيح اشهر روايات جراس، ارتبط اسمه بها إلى الحد الذي جعل بعض النقاد، رغم كثافة انتاجه الأدبي، يعتبرون كل ما كتبه مقارنة بها قليل القيمة، كأنه لم يكتب سواها.
فولكر شلوندورف كذلك بقي اسمه مرتبطا بالطبلة الصفيح وبقيت أعماله الأخرى، ما سبق منها وما لاحق، وكأنها مجرد تنويعات على ذورة فنية لم يستطع بلوغها مرة أخري.

(١)‬ نشرهاعام ٢٠٠٨ في كتاب Licht‪,‬ Schatten und Bewegung‪.‬ Mein Leben und meine Filme أو"‬ ظل ونور وحركة. حياتي وأفلامي"‬