الجمعة، 6 أغسطس 2010

"المغامرة "L'Avventura لأنتونيوني و محنة الضمير الأوروبي.



المغامرة L'Avventura
إنتاج : إيطاليا/فرنسا ١٩٦٠
إخراج : مايكل أنجلو أنتونيوني Michelangelo Antonioni
بطولة : مونيكا فيتي Monica Vitti - جبرايل فريتستي Gabriele Ferzetti - ليا مساري Lea Massari
جوائز : لجنة التحكيم الخاصة مهرجان كان ١٩٦٠







في أرقى أحياء روما، تودع "آنا"Anna أبيها أمام فيلتهم الفخمة قبل أن تسافر في رحلة بحرية بين الصخور شمال إيطاليا. وداع جاف، يشي بسوء العلاقة بين الطرفين و عدم تقبل الأب( الديبلوماسي الثري ) لتصرفات ابنته.
و فجأة تظهر "كلاوديا " Claudia صديقة " آنا" التي سوف ترافقها في رحلتها. و لكنهما يتوجهان أولا إلي Sandro صديق "آنا" الذي ينوي الزواج منها رغم أننا نلمح أيضا أن علاقتهما لا تخلو من التوترات من دون أن نعرف أسباب واضحة لذلك. تصعد " آنا " إلي بيت صديقها تترك صديقتها في الشارع ، تندفع في عناقه و تقبيله بينما تراقب "كلاوديها " صدفة ما يدور بينهما من شباك غرفته المفتوح.
ينطلق ثلاثتهم بصحبة أصدقاء اخرين جميعهم من الأثرياء في رحلة بحرية فوق أحد اليخوت، حيث نتعرف على مختلف الشخصيات بالفيلم. يتوقفون للإستراحة فوق أحد الجزر الصخرية و هناك يثار خلاف ما بين "ساندرو " و "آنا' على أثره تبلغه "آنا" أنها تريد البقاء وحدها، يغفو "ساندرو" قليلا و في المشهد التالي يصحو على المفاجأة التي أقلقلت الجميع .. لقد اختفت "آنا" و لا أحد يعرف أين و لا كيف، و يكون الفيلم هو رحلة البحث عنها حيث يقرر "ساندرو " و "كلاوديا" أن يتولا المهمة لنفاجىء بقصة الحب الغريبة النامية بينهم.

" المغامرة " هو أول أفلام الرباعية التي أخرجها "انتونيوني" و قامت ببطولتها عشيقته في ذلك الوقت الممثلة "مونيكا فيتي " Monica Vitti حيث تلاه بعد ذلك " الليل " la notte عام ١٩٦١ ثم "الخسوف " l'eclisse ١٩٦٢ ثم "الصحراء الحمراء " il deserto rotto عام ١٩٦٤.
و تمثل هذه الرباعية أهم مرحلة في حياة " أنتونيوني " الفنية. و هي التي صنعت مجده كمخرج صاحب بصمة و أسلوب مميز و رائد من رواد الواقعية الإيطاليه- و قد كان خير من مثلها في أنضج و أخر مراحلها - التي غيرت شكل السينما في العالم كله و فتحت عصرا جديدا ودع رومانتيكية الأربعينيات و الخمسينيات بقصصها الساذجة و عبراتها الأخلاقية.

و لا تتشابه أفلام الرباعية في عناصرها الفنية من طريقة حكي ثورية، غير تقليدية و مشاهد بانورمية تلعب فيها اللقطات الطويلة دورا محوريا.. من موسيقي " جيوفاني فوسكو " ( باستثناء فيلم "الليل ") التي افتتحت عصر "التويست " في إيطاليا و مونتاج "إيرالدو دي روما " Erado de Roma و أداء "مونيكا فيتي " الهادئ و المثير بلا تصنع أو دلال .. لا تتشابه الرباعية في كل ذلك فحسب بل يمتد التشابه إلي ما عالجته من موضوعات.
في رباعية " انتونيوني " نحن بصدد اسقاط علي حال المجتمع الأوروبي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية و الشعور العام باليآس و القلق و انهيار القيم التي انتظم عليها المجتمع منذ عصر التنوير. أزمة الضمير التي عبرت عن نفسها في الأدب و الفلسفة و الفنون التشكيلية لذلك العصر و جاء دور السينما لتقول هي الأخري كلمتها.

الاغتراب، ضياع الأحلام الكبيره و اللامعنى ، تفكك العلاقات الإنسانية و الطعن في مصداقيتها.. "ثيمات" جوهرية تكون الأفلام الأربعة تنويعات لها. تلعب "مونيكا فيتي " شخصيات فتيات أربع، كل منهن تعيش في وسط منحل رغم تماسكه الظاهر، كل منهن يتصارعن و عالم من صنع الرجال محاولات فرض ذواتهن و إثبات وجودهن، و إن انهزمن فالهزائم موقتة و الأمل يبيقهن علي طريقهن صامدات غير مباليات بأعراف مجتمع قد تفسخت قيمه و انهارت أخلاقه. فالذي دفع "كلاوديا" الي التمادي في علاقتها مع عشيق صديقتها و مغالبة بقايا ضميرها هو لا مبالة وسطها بل و انحلاله.

الفيلم بعد فترة قصيرة من اختفاء " آنا " يتجاهلها تماما و تصبح رحلة البحث عنها شهر العسل لخائنيها العاشقين. و هو ما أثار تزمر جمهور مهرجان "كان " في العرض الأول. ثم أن أصدقاء "آنا" الذين كانوا معها فوق اليخت لم تعد تشغلهم قضية اختفائها بتاتا و عاد كل منهم إلي حياته كأنها لم تكن.

ربما كانت " آنا " كناية عن الضمير الغائب لهذا الوسط المنحل، فقد كانت الشخص الوحيد الرافض للحلول الوسط، لمسايرة الأوضاع و مرواغة المباديء وإنتهاز الفرص، بعكس أصدقاؤها اناس بلا مبادئ أو مواقف.
و الفيلم باستثناء حادث "إنا " ليس في أحداثه غموضا و أبطاله على طبيعتهم، عرايا النفوس لا يخبئون أسرارا، يخونون علي الملئ و لا يتحرجون. فصديقة "كلاوديا" تطلب منها أن تصحبها في أثناء زيارتها لأستوديو فني لمراهق في السابعه عشر بحجة أنها تخشى أن ينفرد بها و حين يقترب منها تتمادى في تقبيله ضاححة،ماجنة على مسمع و مرأي من "كلاوديا" التي تفاجئ بأن صديقتها تفتح لها الباب داعية إياها للخروج..

ثم أن علاقة "ساندرو" و "كلاوديا" تصير واضحة للعيان و مع ذلك يبقى أصدقائهم على لا مبالتهم و لا يدفع ذلك أحدا إلى النقد أو الاستنكار. "ساندرو" نفسه يعترف في أحد المشاهد بأنه سطحي، مستغل، بلا مبادئ ، يسير مع التيار أينما حل، ثم أن دموعه في نهاية الفيلم التي أرزفها ندما بعد أن تكشف "كلاوديا" خيانته له هي على الأرجح ليست الأولى و ربما لن تكون الأخيرة. صحيح أن الفيلم ينتهي و لكنه يترك فينا الشعور بأنه لن يتغير و أن خياناته ستستمر سواء "لكلاوديا" أو لغيرها. شخصيات الفيلم كلها باردة الشعور، تتعاطف و لكنها تمل من عواطفها سريعا و تعود إلى حيادها ولا مبالتها.

ابتدع " أنتونيوني " لغة سينمائية جديدة تأثرت بها بعد ذلك مختلف تيارات سينما المؤلف Auteurs في العالم ليس فقط على مستوي طريقة الحكي و لكن أيضا في جماليات تصميم الكادر و حركة الممثلين داخله Mise en scène حيث اللقطات الخارجية الطويلة داخل مساحات شاسعة تلعب فيها العمارة دورا رئيسيا في تشكيل خلفية المشهد. بالإضافة لاستخدام عناصر أخرى كالأشجار و الصخور، أو السماء الملبدة بالغيوم مثلا التي استغلها "انتونيوني " للإيحاء بالحالة النفسية لأبطاله. و لوحات الفيلم درس في كيفية تشكيل الكادرات و إثرائها بطاقات تعبيرية لا محدودة و هي تبرز مدى تأثر "أنتونيوني" بالفن التشكيلي و خاصا صديقه الفنان الإيطالي "جورجو دي كيريكو " Giorgio de Chirico و هو ما يشير إليه الكثير من النقاد باستمرار حين يكتبون عن أفلام "أنتونيني" في سنوات الستينيات و السبعينيات .