الأحد، 21 يونيو 2009

ملح هذا البحر الثقيل !


الذي لا تعرفه " أنا ماري جاسر " مخرجة الفيلم الفلسطيني " ملح هذا البحر " أن الحماس وحده لفكرة ما لا يصنع أبدا فيلما جيدا ، بل هو الخطوة الأولي علي طريق طويل حتي يخرج السيناريو و قد احتوي الفكرة و طورها و خلق منها دراما تدفعنا نحن الجمهور إلي الإنفعال بها و بالتالي بالفكرة التي تحملها في طياتها ...

و لكن "ملح هذا البحر " كان سيناريو متعجلا ، خلا من كل حس درامي سليم ، اللهم إلا من تلفيق مفتعل لمواقف يصعب تصديقها فخرج منه في النهاية فيلما لن نكون ظالمين إذا ما وصفناه "بالممل "..

بدأ الفيلم بقوة تحسرنا عليها حين وصلنا إلي نصفه الثاني ، مشهد مفعم بالتوتر في مطار تل أبيب ، زادت من حدته لقطاته التي كان معظمها قريبا close لملامح "ثريا " التي أدت دورها بإقتدار لمسناه من اللحظات الأولي ممثلة سمرآء ، أظن أنها وجها جديدا و لكن أداءها البسيط كان أمتع و أصدق ما في الفيلم .. " ثريا " أمريكيه من أصول فلسطينية ولدت و تعلمت في "بروكلين " و لم تعرف فلسطين إلا من حكايات جدها و جدتها الذين هاجرا إلي أمريكا بعد حرب ١٩٤٨ و تركا "يافا " مدينتهما التي صارت جزءا من إسرائيل ..جاءت "ثريا " لإسرائيل لزيارة صديقتها في رام الله ، هذا ما نفهمه في بداية الفيلم ، ثم نري هذه الصديقة في مشهد واحد ، تختفي بعده تماما لندخل في تناقضات سردية لا حصر لها ، فمرة نكتشف أن "ثريا " جائت لرام الله لاسترداد مبلغ ٣١٥ دولارا كان جدها قد تركهم في أحد بنوك يافا قبل عام ١٩٤٨ ، فلا يعترف البنك بالمبلغ المودع و تبلغها الإدارة في مباشرة سافرة أن كل شىء قد نهبه اليهود بعد النكبة .. تتعرف "ثريا " علي البطل "عماد " في موقف درامي مفتعل لن يخسر السينارست شيئا لو بذل بعض الجهد في حبكته ا، يتقابلا صدفة في أحد المطاعم فيتبادلان النظرات دون حديث ثم في مشهد لاحق تقابله "ثريا " صدفة في الشارع فتقفظ إلي سيارته ثم يأخذها هو بدوره إلي أهله و لا عجب ثم لا يفترقان بعد ذلك .. بل يساعدها هو و صديقه علي سرقة البنك بالقوة في مشهد مقتبس من فيلم out of sight لسودبرج ثم ينجحان في سرقتهما و بيتهجون بإنتصارهم في حضور قوي لتقاسيم موسيقية منتشية في دعوة صريحة لأخذ الحق الضائع بالقوة ، ثم يضرب السيناريو المنطق بعرض الحائط حين يفر ثلاثتهم من البوليس الفلسطيني في رام الله الذي لابد و انه سيطاردهم إلي إسرائيل ! ... كيف ؟ يسرقون لوحة سيارة إسرائيلية ثم يتخفي ثلاثتهم في ملابس أرثوذكس يهود و يشغلون راديو إسرائيل و هكذا يعبرون الحدود في منتهي البساطة و في تناقض صارخ مع المشهد الأول و إستهانة بقدرات العدو ..

و تكون إسرائيل مأوي لهم لأيام عدة ، فيذهبان إلي القدس متخفيين في ملابسهم اليهودية ، و يسيحون في أرجائها في مشاهدنستعرض فيها فتنة المدينة العتيقة ، ثم يذهبون إلي يافا موطن أجداد "ثريا " و هنا يصل الفيلم إلي أسوء مراحلة ، فيتهاوي إيقاع السرد تماما إلي أن يسقط مرتبكا ليربكنا نحن أيضا ، فيطل علينا حشد من المشاهد الحوارية شديدة المباشرة و عالية النبرة السياسية و تتحول "ثريا " التي فهمنا أنها جائت إلي فلسطين لتزور صديقتها ثم اتضح أن السبب الحقيقي هي أموال جدها التي تريد الحصول عليها قبل انتهآء مدة إقامتها القصيرة لإسبوعان .. تتحول "ثريا " إلي مناضلة سياسية يجرفها حنين ملح و نوستالجيا مفاجأه الي المدينة التي لم تولد بها و لم تراها في حياتها إلا من أسبوعان و لكنها قررت أن تقيم بها هاربة ، بلا إقامة و لا مستقبل و لا معني لكل ما نراه ، فقد فقدنا الخط السردي القديم و تهنا في تشابكات نوستاليجية شديدة التكلف , البحر ، الرمال ، الصخور ، فيروز ، رموز أدت بها النبرة السياسية المرتفعة ثم توظيفها الخاطيء و تكرارها إلي تفريغها من مضامينها الجمالية ،هكذا اندفع السيناريو لاهثا وراء حماس أعمي للفكرة السياسية دون أن يتروي ملتفتا لمدي تماسك الأحداث و حبكتها و كيف انها فقدت كل أبعادها الدرامية حتي يصل بنفسه و بنا إل نقطة لا يعرف بعدها إلي أين و كيف يواصل ، فيكمل طريقة ثقيلا مملا حتي النهاية التي يلقي فيها القبض علي "ثريا " و يتم ترحيلها إلي أمريكا ...

ملح هذا البحر ، كان ملحا كثيرا ،تكلف و نوستالجيا مسلوبة المنطق ، و حنين لا هدف له ، و هم سياسي طاف علي السطح في سفور و جراءة فصرع الدراما غرقا و صارت مشاهدة الفيلم كالسباحة في البحر الميت من كثره ملحه لا نستطيع الغوص و لا الفهم ... و لا المتعة